كان حلف شمال الأطلسي ذات يوم قوة يُعتد بها، فخلال فترة الحرب الباردة امتلكت تلك المنظمة قدرات هائلة، وتماسكاً حقيقياً. لم يعد هذا هو الوضع قائماً في الوقت الراهن، لأن الحلف- كمشروع عسكري- لم يعد موجوداً تقريباً، والموجود الآن هو "ناتو" آخر. فالحلف الذي تأسس عام 1949 بمشاركة 12 دولة، كان له هدف موحد هو: الدفاع عن أوروبا الغربية والحيلولة دون نشوب الحرب العالمية الثالثة. ومن خلال إشراك الأميركيين، وإبقاء الألمان تحت السيطرة، وإبعاد الروس، توافرت معادلة تتيح الإمكانية لتحقيق هذا الهدف، وهي معادلة نجحت على مدى أربعة عقود في تحقيق المطلوب منها بشكل فائق. وبمجرد أن اختفى التهديد السوفييتي، لم تضع الدول الأوروبية، التي تشكل القوام الجوهري للحلف وقتاً في المطالبة بنصيبها من عوائد السلام، كما عملت على تقليص ميزانيات دفاعها، وتخفيض قدراتها العسكرية. من الأدلة على ذلك أن دولة مثل ألمانيا التي كانت تمتلك جيشاً يتكون من 12 فرقة عسكرية في عام 1989 - العام الذي انهار فيه حائط برلين- لم تعد تحتفظ سوى بقوات تكفي بالكاد لتشكيل 3 فرق. والمشكلة أنه في الوقت الذي انكمش فيه حجم قوات "الناتو"، ازداد عدد المهام التي أصبح الحلف مطالباً بالقيام بها. أولى تلك المهام هي توسيع "الناتو" من خلال ضم دول جديدة. في الوقت الراهن تتكون عضوية الحلف من 26 دولة، وهناك 3 دول تنتظر دورها في الانضمام هي ألبانيا وكرواتيا ومقدونيا ودول أخرى تطرق على بابه منها صربيا، ومونتينيجرو وجورجيا وأوكرانيا. والحقيقة أن ضم أعضاء جدد وفر آلية لضم الدول التي كانت تُعرف في السابق بدول شرق أوروبا، وبعض الدول التي كانت تشكل جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق إلى أوروبا الكبرى. وهنا واجه الحلف مشكلة، هي أن استراتيجية توسيعه من خلال ضم المزيد من الأعضاء، أدت في ذات الوقت إلى تقليص قدرته الفعلية على الدفاع عن نفسه. وبدلاً من أن يكون منظمة أمنية جماعية، فإن الحلف تحول إلى شيء أكثر شبهاً بالنادي السياسي تتمثل مهارته في عقد المؤتمرات بأكثر مما تتمثل في إعداد نفسه للحرب. وبتحريض من واشنطن، بدأ زعماء دول الحلف الأوروبيون في النظر"خارج الإقليم"، أي التفكير في استخدام القوة العسكرية، من أجل تعزيز الأمن خارج حدود المنطقة، المحددة بموجب معاهدة إنشاء الحلف. فيما وراء هذا المفهوم، يكمن تصور ذهني أو فكرة ينظر إلى دور الحلف على أنه يجب أن يكون مثل دور الجماعة التي تساعد الشرطي الدولي، الذي هو الولايات المتحدة في فرض النظام والأمن في العالم. وقد قدمت حروب البلقان التي اندلعت في عقد التسعينيات من القرن الماضي، فرصة مبكرة لاختبار مدى صلاحية هذا التصور الفكرة. لم تكن النتائج التي تمخضت عن ذلك مطمئنة بالقدر الكافي. ففي عام 1999 على سبيل المثال، استلزم الأمر 11 أسبوعاً كاملة من القصف المكثف بواسطة القوات الجوية القوية للحلف لطرد جيش "سلوبودان ميلوسيفيتش" القليل العدد من كوسوفو. ومن خلال تلك التجربة، ظهر بوضوح أن "الناتو" أصبح يحجم عن التفكير، بأي شكل من الإشكال، في أسلوب القتال المتلاحم. القتال الدائر حالياً في أفغانستان ضد "طالبان" وتنظيم "القاعدة" يقدم اختباراً ثانياً وصعباً للحلف. وقد أظهر هذا الاختبار بوضوح إلى أي حد تضاءلت قدرات الحلف القتالية ودرجة تماسكه. والحلف يخفق في الوقت الراهن في تحقيق هدفه في أفغانستان. فمن الناحية الإسمية، يفترض أن تساهم الدول الست والعشرين الأعضاء في الحلف، في الجهد العسكري الذي يحتاج إلى نشر 43 ألف جندي داخل أفغانستان. ولكن تقليص عدد القوات التي قدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، فإن الحلف لم يتمكن سوى بالكاد من نشر 20 ألف جندي لإقرار السلام في دولة يزيد حجمها عن حجم العراق بنسبة 50 في المئة. مما يفاقم من الوضع أن العديد من المفارز العسكرية المنتشرة في ذلك البلد، تفرض قيوداً ومحددات على عملها- حالة المفرزة الأمنية هي الأكثر وضوحاً في هذا السياق- مما يجعل تلك المفارز غير قادرة على العمل سوى في المناطق التي يسود فيها سلام نسبي. المسؤولون الأميركيون يدعون الدول الأعضاء في الحزب إلى المزيد من المساهمة، وذلك من خلال إرسال المزيد من القوات وتخفيف القيود المفروضة على عملها. المشكلة هنا تكمن في أن الدول الأوروبية تفتقر إلى الأعداد الكافية من الجنود المدربين وإلى الكميات الكافية من الأسلحة والمعدات، كما تفتقر إلى ما هو أهم من ذلك وهو الإرادة السياسية. ويُضاف إلى ما سبق أن شهية الرأي العام الأوروبي لإرسال قوات أوروبية للعمل خارج القارة العجوز، ومطاردة المتمردين في أجزاء أخرى من العالم، قد قلت إلى حد كبير. وهنا أيضاً تقدم ألمانيا التي تعد قرارات القيادة فيها تجسيداً لإرادة الشعب -فيما يتعلق بهذا الخصوص- مثالاً دالاً. ويحذر وزير الدفاع الأميركي "روبرت.جيتس" في الوقت الراهن من خطر تحول "الناتو" إلى حلف يتكون من طبقتين: طبقة تضم الأعضاء الراغبين في تحمل نصيبهم العادل من الأعباء وأخرى تتكون من الركاب المجانيين. هذا التحذير يأتي متأخراً عن موعده، لأن انقسام الحلف إلى طبقتين قد أصبح حقيقة واقعة بالفعل، ترضى الأغلبية في الحلف بموجبها أن تكون في الطبقة الدنيا أي طبقة الركاب المجانيين. وأي نوع من الاستياء الأميركي لن يستطيع أن يغير هذه الحقيقة. فإدارة بوش تخدع نفسها إذا ما كانت تتوقع من الأوروبيين أن يأتوا لينقذوا الموقف في أفغانستان الآن. والتفكير في حلف "الناتو" على أنه حلف كبير وعظيم يشبه إلى حد كبير الاعتقاد بأن بطرسبيرج لا تزال هي عاصمة الحديد، وأن ديترويت هي عاصمة صناعة السيارات في العالم أي أنه اعتقاد لا يزيد عن كونه مجرد حنين إلى الماضي. لقد حان الوقت لشطب مسمى "حلف الناتو" لأن هذا الحلف- ببساطة شديدة- لم يعد قائماً بالصورة التي كان يعنيها هذا الاسم في السابق. أندرو جيه. بيسفيتش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة بوسطن. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"